الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثالثة:إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته.المسألة الرابعة:قال القاضي: هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات: أحدها: أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب.وثانيها: أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول: إنك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع، فلهم أن يقولوا: إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج.وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالمًا قادرًا حكيمًا ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع، وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم، ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه.والجواب عن الكل أن نقول: الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر، والأول: باطل، لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم، وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال.والثاني: عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال، وإن لم يكن منه بل من الله تعالى، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم.المسألة الخامسة:احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} فإن معنى الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم، والمراد بهذا الإذن إما الأمر، وإما العلم، وإما المشيئة والخلق.وحمل الإذن على الأمر محال، لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر، فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل، فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق، وأيضًا حمل الإذن على العلم محال، لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق، وذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه.فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف.قلنا: لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول: المراد بالإذن إما أن يكون أمرًا يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك، فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر ألبتة، فامتنع أن يقال: إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم.وقد دللنا في الكتب العقلية على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا، والله أعلم.المسألة السادسة:القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام، احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا: إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم.وجوابنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون كالمنبه، وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل، والله أعلم.المسألة السابعة:الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد، لأنه تعالى قال: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد، وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد.المسألة الثامنة:في قوله تعالى: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} وجهان الأول: أنه بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل كقوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] الثاني: يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل: إلى أي نور فقيل: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد}.المسألة التاسعة:قالت المعتزلة: الفاعل إنما يكون آتيًا بالصواب والصلاح، تاركًا للقبيح والعبث إذا كان قادرًا على كل المقدورات عالمًا بجميع المعلومات غنيًا عن كل الحاجات، فإنه إن لم يكن قادرًا على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز، وإن لم يكن عالمًا بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل، وإن لم يكن غنيًا عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة، أما إذا كان قادرًا على الكل عالمًا الكل غنيًا عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح، فقوله: {العزيز} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {الحميد} إشارة إلى كونه مستحقًا للحمد في كل أفعاله، وذلك إنما يحصل إذا كان عالمًا بالكل غنيًا عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفًا بكونه شريفًا رفيعًا عاليًا لكونه صراطًا مستقيمًا للإله الموصوف بكونه عزيزًا حميدًا، فلهذا المعنى: وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام.المسألة العاشرة:إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد، لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادرًا، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالمًا، ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيًا عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني، فلما كان العلم بكونه تعالى قادرًا متقدمًا على العلم بكونه عالمًا بالكل غنيًا عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد، والله أعلم.{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)} في الآية مسائل:المسألة الأولى:قرأ نافع وابن عامر: {الله} مرفوعًا بالابتداء وخبره ما بعده، وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفًا على قوله: {العزيز الحميد} وههنا بحث، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق والحق عندنا هو الأول.ويدل عليه وجوه: الأول: أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد، والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق، فلو كان قولنا الله اسمًا مشتقًا من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه، فلو كان قولنا الله لفظًا مشتقًا لكان مفهومه صالحًا لوقوع الشركة فيه، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجبًا للتوحيد، لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم.الثاني: أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولًا قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت.الثالث: أن ما سوى قولنا الله كلها دالة، إما على الصفات السلبية، كقولنا: القدوس السلام، أو على الصفات الإضافية، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا: العالم القادر، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة، فلو لم يكن قولنا: الله اسمًا للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظًا دالة على صفاته، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد، لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص.والرابع: قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على أن قولنا: الله اسم لذاته المخصوصة، وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى: {هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24] فإما أن يعكس فيقال: هو الخالق المصور البارئ الله، فذلك غير جائز.وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤا: {الله الذي لَهُ مَا في السموات} بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله: {الله} مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبرًا عنه وهذا هو الحق الصحيح، فأما الذين قرؤا: {الله} بالجر عطفًا على: {العزيز الحميد} فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق.وإما أن يقال: الخالق الله فهذا لا يحسن، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه: الأول: قال أبو عمرو بن العلاء: القراءة بالخفض على التقديم والتأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات.والثاني: أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولًا ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله: {صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا في السموات} وتحقيق القول فيه: أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحًا محمودًا إذا كان صراطًا للعالم القادر الغني، والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: {العزيز الحميد} ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو؟ فعطف عليها قوله: {الله الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} إزالة لتلك الشبهة.الثالث: قال صاحب الكشاف: الله عطف بيان للعزيز الحميد، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم.الرابع: قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جاريًا مجرى الاسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم، وأما في هذه الآية حيث جعل وصفًا للعزيز الحميد، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظًا مشتقًا فلا جرم بقي صفة.الخامس: أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزًا حميدًا فلما قال: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن، فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال: {الله الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.المسألة الثانية:قوله: {الله الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة، وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق، لكان حاصلًا في السماء، وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه، فلزم كونه ملكًا لنفسه وهو محال، فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق.المسألة الثالثة:احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى، وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال.واعلم أن قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال: {وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} والمعنى: أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك، وإنما خص هؤلاء بالويل، لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه.
|